إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 مايو 2023

أيها الكاتب: تَخَيَّر ألفاظك




فتخَيَّرْ من الألفاظ أرْجحَها لفظًا، وأجْزَلَها معنًى، وأشرفَها جوهرًا، وأكرَمَها حسَبًا، وأليَقَها في مكانِها، وأشكَلها في موضعها؛ فإن حاولْتَ صَنعةَ رسالة فَزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بِميزانِ التَّصريف إذا عَرضتْ، وعايرِ الكلمةَ بِمعيارها إذا سنَحتْ، فإنه ربَّما مَرَّ بك موضعٌ يكون مَخرج الكلام إذا كتبتَ: "أنا فاعل" أحسنَ من أن تكتب: "أنا أفعل"، وموضع آخر يكون فيه: "استفعلت"، أحلى من: "فعلت"؛ فأَدِرِ الكلامَ على أماكنه، وقلِّبْه على جميعِ وُجوهه، فأيّ لَفظةٍ رأيتَها أخفَّ في المكان الذي ندبتَها إليه، وأنزعَ إلى الموضع الذي راودْتَها عليه، فأوْقِعْها فيه، ولا تجعل اللَّفظة قَلِقةً في موضعها، نافرةً عن مكانِها، فإنَّك متى فعلت هجَّنْتَ الموضعَ الذي حاولت تَحسينه، وأفسدتَ المكانَ الذي أردتَ إصلاحه؛ فإنَّ وضْعَ الألفاظ في غير أماكنها، وقَصْدَك بِها إلى غير مصابها، إنَّما هو كتَرْقيع الثوب الذي لَم تَتشابه رِقاعُه، ولَم تتقارب أجزاؤه، فخرج من حَدِّ الجدَّة، وتغيَّر حُسْنُه، كما قال الشاعر:
 
إِنَّ الْجَدِيدَ إِذَا مَا زِيدَ فِي خَلَقٍ
تَبَيَّنَ النَّاسُ أَنَّ الثَّوْبَ مَرْقُوعُ
 
وكذلك كلَّما احلَوْلَى الكلامُ وعَذُب، وراق وسَهُلت مخارِجُه، كان أسهلَ وُلوجًا في الأسماع، وأشدَّ اتِّصالاً بالقُلوب، وأخفَّ على الأفواه؛ لا سيَّما إذا كان المعنى البديعُ مُترجَمًا بلفظ مونقٍ شريف، ومُعايَرًا بكلامٍ عَذْب لم يسمْه التكليف بِمِيسَمِه، ولم يُفسده التَّعقيد باستغلاقه".

ابن عبد ربه | العِقد الفريد.

ليست هناك تعليقات: