إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 مايو 2023

ازدحام المعاني يعوق الكتابة




الآن استهلَّ العامُ الجديد، لقد أوشك فجره الأول أن يطلّ على الدنيا وأنا حانٍ على مكتبي، أفكر منذ ساعات في أشياء لا أستطيع أن أصفها أو أعبّر عنها أو أحصيها، والليل ساكنٌ تتردّد بين جوانحه أنفاسُ السّحَر، وأنا أنظر من غرفتي إلى صحن المسجد، مسجد أبي حنيفة في الأعظمية، فأراه مشرقاً بالنور، مترعاً بالجلال، ولكنه خالٍ من الناس، وأنظر إلى صحن المدرسة، دار العلوم الشرعية، وحديقتها الخالية الحالية بأشجار الموز والنخل والورد، والغرفة بينهما لها إلى كل من الصحنين باب. أريد أن أكتب (مقالة العام الجديد) فلا تُواتيني الأفكار، ولا تتوارد عليّ الكَلِم، وصدري أغنى بالمعاني منه في الأوقات كلها، ولكن ازدحام المعاني على الفكر، وتكاثرَ الصور في الصدر، يعيق المرء عن الكتابة كما تعيقه قلَّتُها، كالذي يريد أن يملأ الكأس من السبيل إن كان جافاً أو نَزْراً قليلاً لم تمتلئ الكأس، وإن كان الماء يهدر وينحدر بقوة ويتدفق من فم الأنبوب مندفعاً تطاير الماء إلى كل جانب ولكنه لا يستقر في الكأس منه شيء، لأن كل قطرة تطرد أختَها كما تزيح كلُّ فكرة في رأسي الفكرةَ التي قبلها لتحل في مكانها".

من مقالة كتبها علي الطنطاوي -رحمه الله- عام ١٩٣٩م | منشورة في كتابه (نور وهداية)

ليست هناك تعليقات: